النوم.. من عادة إلى عبادة

تحدثنا في المقال السابق عن النوم، وما ترسخ عنه من اعتقاد خاطئ بأنه خمول في وظائف الجسم الجسدية والعقلية، واستعرضنا قائمة من أهم البحوث العلمية التي خرجت بنتائج واضحة بينت السبيل إلى نوم مثالي يحفظ صحة الإنسان ويقيه من جملة من الأمراض. وفي مقالنا هذا سنحاول استكمال بعض النقاط المهمة، محاولين الإجابة في نهايته عن سؤال: كيف نحول النوم من عادة إلى عبادة؟


إن النائم يمر خلال نومه بأربع مراحل: المرحلة الأولى تكون ما بين النوم واليقظة، المرحلة الثانية يقل فيها مستوى الوعي للأحداث الخارجية وتدريجياً يصعب إيقاظ النائم، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة النوم العميق، وفيها يتم إصلاح وبناء الخلايا وعمليات النمو، ثم تأتي مرحلة العين السريعة، وهي شلل كامل لعضلات الجسم بالرغم من أن موجات الدماغ نشطة جداً كالإنسان المتيقظ، بل إن استهلاك الدماغ للأكسجين يكون أكبر من حالة الاستيقاظ .. يصاحب ذلك عدم انتظام التنفس وارتفاع دقات القلب والضغط، ومعظم الأحلام تتم في هذه المرحلة، وهي تشكل حوالي 25% من مجموع ساعات النوم الإجمالية، وتستغرق هذه المراحل الأربع 90 دقيقة تقريباً وتتكرر عدة مرات أثناء الفترة الإجمالية للنوم.


إن عدد ساعات النوم التي يحتاجها الإنسان الطبيعي تتفاوت من شخص إلى آخر، فإن كنت تنام خمس ساعات وتشعر بالنشاط في اليوم التالي فإنك غالباً ما لا تعاني من مشاكل في النوم، ولكن الدراسات الإحصائية تبين أن متوسط عدد الساعات التي يحتاجها أغلب الناس هي من سبع إلى ثماني ساعات في اليوم، يقل في الحد الأدنى إلى 5 ساعات ويرتفع في الحد الأقصى إلى 10 ساعات، ويحتاج الأطفال المراهقون إلى ساعات أطول تصل إلى 10 ساعات من النوم في المتوسط.


في دراسة للمركز الوطني للإحصائيات الصحية بالولايات المتحدة الأميركية وجد أن 2 من كل 10 أشخاص ينامون أقل من 6 ساعات في الليلة، و1 من كل 10 ينامون 9 ساعات أو أكثر في الليلة.


هذا المعدل متوافق ومنسجم مع الهدي النبوي، ففي القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ”، والحديث المتفق عليه: “أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا”، وبعملية حسابية بسيطة لتحديد معدل النوم الطبيعي من الهدي النبوي، وبعد إضافة ساعة القيلولة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “قيلوا فإن الشياطين لا تقيل” نجد مطابقة للمعدل الطبيعي إحصائياً والمنصوح به طبياً وهو من 6 إلى 8 ساعات معدل 7 ساعات في اليوم.


وقد أكد العلم الحديث صحة ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أكثر من 1400 سنة في الأمر بالقيلولة، فقد بينت الدراسات العديدة حول العالم أن نشاط الدماغ ينخفض في هذه الفترة وهي ما بين الظهر والعصر، وأن درجة الحرارة تنخفض في الليل وفي وقت الظهيرة.
وقد أكد علماء في مؤسسة النوم الوطنية الأميركية أن فترات القيلولة القصيرة في منتصف النهار لمدة ثلاثين دقيقة تلغي أثر التعب وتعيد الاستقرار والحيوية والنشاط للذهن والجسم.
وفي دراسة قامت بها وكالة ناسا على رواد الفضاء، وجدت أن 40 دقيقة قيلولة حسّنت الأداء لأكثر من 34% وحققت تنبيهاً وتيقظاً يصل إلى 100%. وفي دراسة نشرت في مجلة العلوم النفسية عام 2002، بينت أن القيلولة من 10 إلى 40 دقيقة تكسب الجسم راحة وتخفف من مستوى هرمونات التوتر المرتفعة في الدم نتيجة النشاط البدني والذهني المبذول أثناء النهار.


وكان السلف يحرصون عليها حتى إن عُمر عندما بلغه أن عاملاً له لا يقيل، كتب له قائلاً: (قل فإن الشياطين لا تقيل). وبناء على دراسات عديدة فإن دولاً كثيرة سنت قوانين لضمان القيلولة كحق لمواطنيها، بل منهم من جعلها حقا دستورياً مثل الصين، وهناك شركات عالمية خصصت غرفاً خاصة للقيلولة في أماكن العمل.


وفيما يخص السهر ليلاً ومحاولة تعويض النوم نهاراً، كذلك له تبعاته السلبية، وإن أخذ الإنسان كفايته من النوم أثناء النهار، حيث إن نوم الليل ليس كنوم النهار، فالله جعل الليل لباساً وسكناً، ووضع في الإنسان ساعة بيولوجية تعينه على أن يتماشى ويسبح مع الكون من حوله، فإن فعل وافق سنن الله في الكون وفي خلقه فأصبح نشيطاً صحيحاً، وإن خالفها وسبح عكسها أصابه الوهن والضعف وأصبح عليلاً.


ولكن ليس عدد ساعات النوم في الليل هو المهم وحده، وإنما الوقت الذي نستيقظ فيه لا يقل أهمية، فإن استيقظت في مرحلة النوم العميق ستشعر بالكسل والنكد والاختلاط الذهني وعدم التركيز أحياناً؛ لأن أحد وظائف مرحلة النوم العميق هي مسح كثير من السلبيات العالقة في الذهن من اليوم السابق. ولذلك بينت الدراسات أن الشخص نفسه إذا أوقظ قبل أن ينهي هذه المرحلة أثناء الليل وأعطي أسئلة فإن إجاباته ستكون سوداوية متشائمة مقارنة بما لو أنه أجاب على نفس الأسئلة بعد الانتهاء من مرحلة النوم العميق وإيقاظه من مرحلة النوم الخفيف.
هذا الذي دعا إلى تصميم الساعة الذكية التي لا توقظك من نومك العميق، وإنما في أقرب وقت يكون فيه نومك خفيفاً عن طريق استخدام أجهزة استشعار في الهواتف الذكية لمراقبة حركاتك وتسجيل مراحل نومك المختلفة من الخفيف إلى العميق، وفي الصباح تحصل على مخطط زمني يعرض لك إلى أي مدى تمكنت من البقاء في سبات عميق.
إن تحقيق نوم هادئ صحيح هو نتيجة عوامل عديدة من انتظام مواعيد النوم والاستيقاظ والعمل والحركة والرياضة بانتظام في النهار والابتعاد عن منبهات قبل النوم بخمس ساعات أو يزيد وتجنب الوجبات الغذائية الثقيلة قبل النوم بساعات، وهناك أنواع من الطعام تساعد على النوم الهادئ أكثر من غيرها مثل المواد الكربوهيدراتية والمواد المحتوية على مادة السيراتونين مثل الحليب.


إننا نقضي ثلث عمرنا في النوم، فكيف نستطيع أن نحول هذه العادة إلى عبادة؟
نحولها إلى عبادة بالنية وباتباع السنن النبوية .. بنية أن ننام لنعيد بناء أنفسنا لنقوى بها على عبادة ربنا بعمارة أرضه كما يحبها أن تعمر وباتباع السنن النبوية التي منها الوضوء قبل النوم، والاضطجاع على الشق الأيمن، يقول الرسول الكريم “إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ“.


وقد أثبت علم الطب الحديث فوائد النوم على الشق الأيمن، فبه نحمي القلب من ضغط الكبد والرئة اليمنى عليه، والكبد يصبح مستقراً لا معلقاً كما هو الحال في النوم على الشق الأيسر، والمعدة جاثمة على الكبد بكل راحتها، وذلك أسهل لإفراغ ما بداخلها من طعام بعد هضمه.
وكذلك الوتر قبل النوم، يقول الرسول الكريم “أوصاني خليلي بثلاث، وذكر منها أن أوتر قبل أن أنام“.


وكذلك دعاء النوم “بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ“.


وعند الاستيقاظ نقول “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور“.
فلنعمل على تحويل عادة النوم القهرية إلى عبادة طوعية بالنية وباتباع السنن النبوية، فتستمر الحسنات تكتب ونحن نائمون برعاية ربنا في سلام وسكينة نومة هنية رضية.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493