البر المنسي

كثيراً ما نسمع عن بر الوالدين وعن عقوق الأبناء لوالديهم، ولكن قبل أن يصل أبناؤنا إلى العمر الذي يُطالبون فيه ببرنا، فهناك بر آخر يسبق هذا البر.. لكنه كثيراً ما يُنسى.. ألا وهو برنا نحن لأبنائنا.


وهل هناك ما يسمى ببر الآباء لأبنائهم؟ وهل هناك عقوق للوالدين تجاه أبنائهم؟


جاء رجل إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يشكو إليه عقوق ابنه، فلما سمع من الابن قال عمر للرجل: “جئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليك“.


وكيف يبر الآباء أبناءهم؟.. يبرونهم جسدياً وعقلياً وروحياً..


أما البر الجسدي فيشمل المسكن والملبس والطعام والشراب والحماية الجسدية من كل مكروه. وكلها حقوق لأبنائنا علينا، والتفريط في أي منها يعتبر صورة من صور عقوقنا لهم.


ومن صور العقوق كذلك العنف الجسدي من ضرب وصفع للوجه، فكم من الآباء يبررون لأنفسهم صفع الوجه الذي نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يضرب نهياً باتاً حتى في حالة القتال والدفاع عن النفس، فقال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ”، فالوجه أشرف ما في الإنسان، وفي ضربه إذلال وإهانة لكرامة الإنسان.


وقد أثبت الطب الحديث ما للصفع على الوجه من أضرار بالدماغ والجهاز العصبي وأعصاب الوجه، وهذا الذي أدى إلى إصدار قوانين دولية لحماية الطفل بين عامي 1979 و2010 بمنع وحظر وتحريم صفع الوجه للطفل، وقد سبق الإسلام كل هذه الدول بـ1400 عام.


وهل قرأنا عن معلمنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ضرب أحداً تأديباً، فهذا أنس بن مالك الذي أتت به أمه في العاشرة من عمره ليتربى على يد رسول الله ويتعلم منه ويخدمه، يقول أنس: “خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ، لِمَ تَرَكْتَهُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا“.

كيف رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن؟ وقفت عند الحديث طويلاً فوصلت إلى نتيجة أن رسول الله رباه بالحب الصادق غير المشروط الذي أثمر حب أنس بن مالك لرسول الله، ولشدة حبه لرسول الله تعلم منه كل شيء بالقدوة الحسنة، كم من الآباء صفعوا أبناءهم بذريعة التربية والتهذيب، وإن الإسلام لبريء مما صنعوا ويصنعون.


أما البر النفسي فمنه توفير المناخ النفسي الصحيح السليم الذي يحافظ على كرامة الطفل وحمايته من كل ما يؤثر في هذه النفس سلباً، والتعامل معه بأنه إنسان كرمه الله ونفخ فيه من روحه سبحانه، فهو ليس ملكية لأحد، ودور الآباء فقط هو التربية الصالحة وتوفير المناخ الذي يساعدهم على اكتشاف ملكاتهم التي حباهم الله بها، واختيار وجهتهم في الحياة “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ”، ومن صور العقوق النفسي لأبنائنا؛ العنف اللفظي والنفسي من كلمات وألفاظ مسيئة تحمل عبارات السخرية والاستهزاء أو السب والشتم، وكذلك التهديد واستخدام لغة سوقية.


عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لَمْ يَكُنِ رَسُولُ الله سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا”، وفي حديث آخر “قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً”. فما بالنا نرى آباء يسبون أبناءهم ويشتمونهم بل ويلعنونهم، وهذا قدوتنا ومعلمنا سيدنا محمد لا يلعن حتى الأعداء المقاتلين “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.”


ومن صور العنف النفسي كذلك الانتقاد المستمر ومقارنة الأطفال بآخرين أو التعبيرات الجارحة وكل نمط سلوكي يهاجم النمو العاطفي للطفل وصحته النفسية وإحساسه بقيمته الذاتية، كأن يُشعر الأبُ أبناءَه أنهم عالة عليه أو حمل ثقيل أو أنه لا فائدة منهم، وبذلك يشوه صورة الطفل الذاتية لنفسه، مما يؤدي إلى انعدام القيمة وتبخيس الذات مدى الحياة.

 

وقد أثبت العلم الحديث التبعات السلبية للعنف اللفظي والنفسي من تأثير على نمو الطفل الجسدي والعقلي والنفسي والاجتماعي والأكاديمي والعاطفي، وزيادة نسبة الإصابة بالاكتئاب والانطوائية والخوف وأمراض أخرى كثيرة، ففي دراسة مشتركة بين ثلاثة مراكز وجامعات طبية بألمانيا، توصل الباحثون إلى نتائج مذهلة، فقد وجدوا أن البالغين الذين عانوا في طفولتهم من اعتداءات وعنف نفسي وعاطفي ظهرت آثار هذه الاعتداءات في صورة تقليص لنمو منطقة مهمة في مقدمة الدماغ، ومن وظائف هذه المنطقة التخطيط المعقد وصنع القرارات والتعبير عن الشخصية والسلوك الاجتماعي، وهي المنطقة الأكثر تأثيراً نتيجة للضغوط النفسية، وقد نشرت هذه الأبحاث في مجلة علم النفسي البيولوجي.


وأما صور بر الآباء لعقول أبنائهم، فمنه حسن تعليمهم وحسن اختيار المدرسة والمعلمين واحترام عقولهم وإعطاؤهم فرصة التفكير بعيداً عن التهميش أو الاستبداد بالرأي في أمور ليست خطأ وفيها وجهات نظر مختلفة، لأن هذه الفترة من العمر يتكون فيها عقل الطفل، فإن ضُيق عليه تفكيره وحُرم من حرية السؤال والمناقشة والحوار المنطقي ونشأ على هذه الطريقة، فإن عقله سيتشكل على ذلك، ولن يستطيع أن يفكر باستقلالية أو يحاور أو يسأل طوال عمره.


إن أبناءنا ولدوا على الفطرة التي خلق الله الناس عليها.. هم صفحة بيضاء نحن نملؤها.. وهم أرض خصبة نحن نزرعها، فالحب الصادق غير المشروط (لا الحب التملكي المشروط) سيثمر حباً موازياً بل ويزيد، والاحترام والتقدير والصبر والكرم والإيثار كلها ستصبح بالتلقي جزءاً من كيان أطفالنا وسنجني نحن ثمارها.


إنه على قدر برنا لأبنائنا في صغرهم يكون قدر برهم لنا في كبرنا، فبذرة الحب التي تُودع في قلب طفل على الفطرة وتُسقى بالرحمة والصبر والكرم والإيثار ستصبح يوماً شجرة معطاءة، وأول من يجني ثمارها الأيادي التي زرعتها.


إن عقوق أبنائنا لنا كثيراً ما يكون حصاد ما زرعنا، فلنتق الله فيما نزرع. وهنا أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده“.


إننا بإحساننا لأطفالنا في صغرهم نكون قد أعناهم على برنا في كبرنا وكبرهم، وأن لا نكون مثل الذي قال له عمر “عققت ابنك قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليك” وإنما نكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم “رحم الله والداً أعان ولده على بره”، ولَنُسَأَلَن يوم القيامة عن برنا لأبنائنا قبل أن يُسأل أبناؤنا عن برهم لنا.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493