الظلم.. الفطرة المنتكسة

إذا انتشر في أرض نزع منها البركات، فقلت الخيرات، وانتشرت الآفات، وغرقت الأرض في ظلمة ويوم القيامة ظلمات. ففيه جماع الآثام، ومنبع كل الأمراض والأسقام، والسكوت عنه أكبر جرائم الإنسان في حقه وحق الناس والرحمن، ولذلك شُبه الساكت عنه بالشيطان، حرمه الخالق على نفسه ولم يحرم على نفسه غيره في القرآن، ووضع لنا الميزان وحذرنا سبحانه وتعالى فقال: “وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ“.


إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وللظلم تعريف عام لكل ما هو ضد العدالة من التجاوز والتعدي عن الحد الوسط في أي شيء كان، وبذلك يكون الظلم جامعاً للرذائل بأسرها. والتعريف الأخص قد يراد به ما يرادف الإضرار والإيذاء بالغير كالقتل أو الضرب أو الغصب وأخذ المال قهراً، وغير ذلك من الأقوال والأفعال المؤذية، وهناك ظلم معنوي يصدر من بعض أفراد المجتمع تجاه الآخرين في التعامل معهم والانحياز عنهم وتفضيل غيرهم أو عدم تحقيق العدل معهم.
والظلم أنواع: كظلم الإنسان ربه وظلم الإنسان غيره أو لنفسه، وأعظم الظلم هو ظلم الإنسان ربه، قال سبحانه وتعالى: “إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ”، وكل أنواع الظلم هي في النهاية صور مختلفة من ظلم النفس، يقوم الإنسان بكامل إرادته وأهليته العقلانية بإيقاع الظلم على نفسه طائعاً مختاراً، قال تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً”، وقال تعالى: “وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ“.


وعكس الظلم العدل، وهو من أسماء الله الحسنى، فالله هو العدل، وقد أمر الله به فقال: “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى”. بل وأمر بالعدل مع كل ما حولنا في البر والبحر وجعل في البيئة من حولنا خاصية ذاتية أن تعطينا على قدر ما نعطيها، قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ“.
والقسط هو تمام العدل، وهو الهدف من إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب من السماء، قال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ“.


الظلم هو سبب كل فساد في الأرض، فإذا اختل ميزان الإصلاح بالفساد الذي يجلبه الظلم، اختل نظام الحياة كلها على الأرض، ويبدأ الاختلال ببنية الإنسان وكيانه جسداً وعقلاً وروحا، فكيف يدمر الظلم الإنسان.. بل هل هناك ما يدمر الإنسان أكثر من الظلم؟ ماذا يقول لنا العلم عن ذلك؟


أظهرت دراسة بريطانية للكلية الجامعية في لندن أجريت على أكثر من 8000 شخص من العاملين بالقطاع الحكومي من النساء والرجال ولمدة 11 عاماً، وذلك بسؤالهم كيف يقيمون عبارة: “أشعر كثيراً أني أعامل بطريقة غير عادلة”، على مقياس من 1 إلى 6، 1 هو غير موافق بشدة، و 6 موافق بشدة، وخلصت الدراسة إلى أن الأشخاص الأكثر شعوراً بالظلم هم أكثر عرضة بنسبة 55% للإصابة بأمراض القلب، كما وجد الباحثون أن الشعور بالظلم مرتبط بتدني الحالة الصحية والعقلية بشكل عام، وقد نشرت هذه الدراسة في “مجلة علم الأوبئة وصحة المجتمع“.


ولكن لم يصبح الإنسان ظالماً وقد ولد على الفطرة العادلة المغروسة في كل واحد منا؟ كيف تتبلد معايير العدل فينا؟ وكيف نهيأ للظلم؟ أي كيف تنتكس فطرة العدل المؤصلة فينا؟


في دراسة نشرت في “مجلة تنمية الطفل”، قامت جينيفر جينكنز البروفيسوره في تطور وسيكولوجية الإنسان من جامعة تورونتو بدراسة التأثيرات الجانبية العديدة من جراء معاناة الإنسان في مرحلة الطفولة لأي شكل من أشكال الظلم، فقامت بدراسة 400 عائلة كندية، كل عائلة فيها 4 أطفال أو أقل، فوجدت أنه إذا وجدت تفرقة في طريقة معاملة الأبناء وإن كانت بسيطة جدا ولم يكن لها مبرر في عقل الطفل، فإن الأطفال جميعهم المفضل فيهم والمفضل عليهم يظهرون مشاكل في التركيز والعاطفة عند كبرهم.


نعم المشكلة ستكون في جميع الأطفال! وتفسير ذلك هو أن الطفل المفضل بفطرته السوية التي لم تنتكس بعد، يتألم في اللاشعور بهذا التفضل الذي حظي هو به ويعيش معاناة الظلم التي يمارسها أحد الآباء تجاه أحد إخوته، ولكنه لا يستطيع أن يوازن ولا يعرف كيف يتصرف فيتأذى كما يتأذى إخوته، وقد يتبلد إحساسه بالظلم كطريقة ووسيلة للتأقلم والتعايش مع وضعه، بل وقد يمارسه ويصبح جزءاً من طبعه أو يكره نفسه لأنه سبب تعاسة إخوته، وفي حالات قليلة يصبح كارها للظلم وأهله. إذاً الظلم يؤذي كل أفراد العائلة بلا استثناء.


وقد خلق الله دماغ الإنسان وأصَّل فيه رفضه التام لكل أشكال الظلم، فعندما يرى الدماغ الظلم في أي شيء، فإنه يستقبله بأنه تهديد له ولسلامته وكيانه، فيفرز هورمونات التوتر كأنه دخل معركة. وقد استطاع علماء الأعصاب باستخدام أحدث تقنيات أشعة الدماغ دراسة كيف تتم صناعة القرار الأخلاقي في الدماغ. يقول ستيفين كوارتز من جامعة كاليفورنيا للتقنية “إنه في اللحظة التي يدرك فيها الدماغ أن الوضع الذي يرى فيه ظلماً فإنه يرفضه رفضاً تاماً ليقول لا ويتأهب للقتال”. وهذا يؤكد أن الدماغ مغروس فطرياً بالحساسية ضد الظلم، وأن الجزء العاطفي في الدماغ هو الذي يسيطر فيقول الدماغ كلمته “لا” بغض النظر عن تبعات الرفض للظلم، فالجزء العاطفي الفطري هو الذي يتحكم هنا، وهذا يفسر قدرة الإنسان العجيبة عبر التاريخ أن يكون هناك من يقول لا للظلم، مهما بلغ الظلم من قوة وطغيان وبطش.


يحاول علماء النفس أن يجيبوا عن سؤال: هل هناك طريقة خاصة لمعالجة المعلومات في أدمغة الأشخاص الذين يميلون للظلم ويمارسونه؟ في مقالة نشرت في “المجلة الأوروبية لدراسة الشخصية” في عام 2011م بعنوان الحساسية للعدل وطريقة معالجة معلومات العدل في الدماغ، بينت د. أنا بوميرت وزملاؤها الباحثون أن الأشخاص الذين يفكرون أكثر في الظلم تتطور وتتشكل أدمغتهم بطريقة تجعلهم يكتسبون قدرة فائقة ومميزة على رؤية مواطن الظلم وتفعيل أجزاء من الدماغ المختلفة، خاصة منطقة الذاكرة تجاه معايير الظلم، حتى تصبح قضية العدل والظلم معياراً في طريقة تفكيرهم، مما يجعلهم أكثر حرصاً على العدل في أعمالهم وأقوالهم، وهذا يؤصل فيهم العدل أكثر فأكثر ويجعلهم رافضين للظلم أكثر فأكثر.
فعلى قدر ما تعطي قضية العدل من همك وعقلك على قدر ما تعطيك همة وعقلاً لرؤية مواطن الظلم ومحاربته وتحري العدل في القول والفعل، وفي كل مرة تسكت فيها عن ظلم، يعاد تشكيل دماغك وتفقد القدرة على رؤية مواطن الظلم حتى تنتكس الفطرة ولا يرى الإنسان الظلم ظلماً، وعندها يصبح أشبه بالشيطان منه للإنسان، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وهكذا جعلنا الخالق نحصد ما نزرع ونأكل من ثمار ما زرعنا “وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”. وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن بعض أنواع الظلم التي تفتك بالمجتمعات وتفسد كل شيء فيها، مثل الظلم الاجتماعي والظلم الاقتصادي، كما سنتعرض للظلم من منظور الشرع الإسلامي الحنيف.

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493