خطأ طبي.. أم خطأ نظام طبي؟

صناعتان عظيمتا الخطر، بالغتا النفع، رفيعتا المنزلة، حري لمن أخذهما بحقهما أن ينال سعادة الدارين، الكفاية والشرف في الدنيا والأجر والمثوبة في الآخرة.
التطبيب والتمريض توأمان يتكاملان ولا ينفصلان، ولذلك يأتيان بعد علوم الدين في المنزلة والشرف. ورد في الأثر: “العِلم عِلمان: علم الأديان وعلم الأبدان”، ويقول الشافعي: “لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب”، ويقول: “صنعتان لا غنى للناس عنهما، العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم”.. فما هو دور المعالج في تحقيق العلاج والشفاء؟ ومتى نقول له اجتهدت وأخطأت فلك أجر؟ ومتى نقول له: أخطأت وعليك الضمان؟
ما زلت أذكر القضية التي طرحها بين أيدينا وكأنها البارحة، ما الفرق بين الخطأ الطبي والإهمال؟ ومتى يجب أن يعاقب المعالِج؟ لقد كانت هذه القضية هي محور المناقشة في إحدى المحاضرات في جامعة هارفارد للصحة العامة أثناء إعدادي لرسالة الماجستير في القوانين والإدارة الطبية عام 1995، وكانت إحدى هذه القضايا ممرضة في قسم العناية المركزة أقدمت على خطأ جسيم أدى إلى وفاة المريض، حيث أخطأت تحت ظروف العمل القاسية والإنهاك فأوصلت إبرة محلول الغذاء بالأنبوب الموصل بالشريان بدلاً من أن توصله بالأنبوب المتصل بالجهاز الهضمي، مما أدى إلى وفاة المريض.


وعندما سأل البروفيسور الأطباء في المحاضرة: من منا يعتقد بأن الممرضة لا بد أن تُطرد وتُعاقب أجاب معظمنا بالإيجاب، ولكن بعد ساعتين من المحاضرة والمناقشة وعرض نتائج الدراسات المكثفة التي أُجريت في أميركا في هذا المجال، أعاد البروفيسور سؤاله الأول على الأطباء الحاضرين، فكانت الإجابة قد تغيرت بالإجماع: إنه ليس من الضروري أن تُطرد الممرضة وتُعاقب، ولكن لا بد أن يتم التحقيق في النظام الطبي الذي سمح بحدوث الخطأ.
قد يبدو هذا المنطق غريبا لكثيرين ممن فيهم الأطباء، أما الذي كان يحاضر لنا هذا اليوم هو البروفيسور لوشيان ليب، الذي يلقب اليوم حول العالم بالأب الروحي لسلامة المرضى، فقد كرس أكثر من عقدين من الزمن لدراسة وتصحيح مفهوم الأخطاء الطبية حول العالم وقدم مئات الأبحاث في هذا المجال، وفي عام 2006 مُنح لقب أكثر الشخصيات المؤثرة في الصحة حول العالم، وخلال عقدين من الزمن طلب منه مرات عديدة أن يقدم توصياته أمام الكونجرس الأميركي لتحسين سلامة المرضى. وقد أسست أبحاثه ودراساته دليل منظمة الصحة العالمية للإبلاغ عن الآثار والمضاعفات والأخطاء الطبية ونظم التعلم من الأخطاء عام 2005.


لقد أثبتت الدراسات والإحصائيات صحة ما كان يدعو له البروفيسور لوشيان ليب قبل عقدين من الزمن، من أن الطريقة الصحيحة للتعامل مع الخطأ الطبي هي توجيه الطاقات لدراسة سبب هذا الخطأ وتغيير النظام الطبي بحيث يمنع حدوث مثل هذا الخطأ في المستقبل، هذا هو المهم لأن الإنسان بطبيعته البشرية الإنسانية معرض للخطأ ولا يُستثنى من ذلك أحد من البشر، ولكننا إذا استطعنا أن نستثمر كل خطأ في إعادة تصميم النظم والسياسات المتبعة في النظام الطبي بحيث نمنع حدوث الخطأ مرة أخرى يكون كل خطأ هو بمثابة نافذة تبصرنا بضعف في النظام وتعيننا على إعادة تصميمه وتحقيق سلامة أعلى بكل خطأ نكتشفه ونتعامل معه بصدق وشفافية وشجاعة دون خوف من عقاب.


فالأهمية تنصب في تصحيح النظام، خاصة عندما لا يكون في الخطأ تعمد أو إهمال وإنما خطأ بشري يمكن أن يقع فيه كل إنسان.


إن (الخطأ الطبي أو الإهمال) هو الخطأ الذي يجاوز فيه الطبيب الحد المعتبر عند أهل الاختصاص، بحيث يعتبر مخالفاً لأصول مهنة الطب المعتبرة حسب الزمان والمكان اللذين تجري فيهما هذه العملية أو الإجراء الطبي، ويؤدي ذلك الخطأ إلى ضرر بالمريض أو فقدان حياته.
في المقابل فإن هناك مضاعفات جانبية متوقعة بنسب معينة لأي عملية، ومثال ذلك أنه بالرغم من اتباع أعلى معايير التعقيم في أفضل المستشفيات في العالم ومع أفضل الأطباء، تبقى هناك نسبة من 3–4% لخطر حدوث الالتهاب جراء أي عملية، وتختلف هذه النسبة المقبولة عالميا حسب نوع العملية الجراحية، وكذلك احتمالية حدوث جلطات في الدم، بالرغم من إعطاء المريض الأدوية التي تمنع تخثر الدم، وقد يؤدي الالتهاب الرئوي إلى الموت بالرغم من إعطاء المضاد الحيوي الصحيح في وقته وبالطريقة المثلى، وبأعلى المعايير الطبية.
وهناك أخطاء في النظام الطبي، لا تمثل خطأ بشريا أو إهمالا أو مضاعفات متوقعة.
إن عقلية عقاب المخطئ كانت هي السائدة حول العالم، فهل أعان هذا الأسلوب في تحسين سلامة المرضى حول العالم؟ فلننظر للإحصائيات:

في تقرير معهد البحوث الطبية التابع لأكاديمية العلوم الأميركية عام 1999، قدر عدد الذين ماتوا في أميركا جراء أخطاء طبية ما بين 44 ألفا و98 ألف مريض كلها كان يمكن تفاديها. هذا يعادل تحطم طائرة كل يوم، وقدرت تكلفة هذه الأخطاء في أميركا وحدها 37.6 بليون دولار في السنة، منها 17 بليونا لأخطاء كان يمكن تفاديها، وفي تقرير عام 2007 وجد أن الأخطاء المتعلقة بالدواء وحده قدرت بـ 4 بلايين دولار سنويا.


وقد نشرت مجلة سلامة المرضى في سبتمبر 2013 دراسة مستفيضة قام بها الدكتور جون جيمس، رئيس منظمة سلامة المرضى الأميركية، التي أسسها بعد وفاة ابنه عام 2002 نتيجة خطأ طبي، وقد بينت الدراسة أن عدد الذين يموتون كل عام في أميركا وحدها نتيجة الأخطاء الطبية هي أعلى أربع مرات من الأرقام التي نشرت عام 1999، لتصبح عام 2013 ما بين 210 آلاف إلى 440 ألف وفاة في أميركا وحدها.


أما الأرقام في الاتحاد الأوروبي فلا تختلف كثيراً عن أميركا، فالإحصائيات المذكورة في موقع المكتب الإقليمي الأوروبي لمنظمة الصحة العالمية بينت أن الآثار والمضاعفات الجانبية للأخطاء الطبية تحدث في المستشفيات بنسبة 8% إلى 12%، وتبين الإحصائيات كذلك أن تغيير الأنظمة الطبية فقط في الاتحاد الأوروبي يمكن له أن يتفادى أكثر من 750 ألف خطأ طبي سنوياً، مما يؤدي إلى تفادي 260 ألف إعاقة دائمة و95 ألف وفاة في العام الواحد. وتقارير كندا وأميركا وأوروبا جعلت منظمة الصحة العالمية تقدر الآثار الجانبية والأخطاء التي تحدث بنسبة مريض من كل عشرة مرضى يتلقون العلاج الصحي.


وتبين الإحصائيات أن 1% فقط من القضايا التي ترفع في أميركا ضد الطبيب تنتهي بتعويض المريض، وأن 76 بليوناً إلى 126 بليوناً التي تصرف كل عام في أميركا للدعاوى القضائية ضد الأخطاء الطبية لا يصل منها تعويض للمريض إلا القدر القليلن والباقي يذهب لمصاريف المحامين. وفي مقال قادم بإذن الله سنعرض للفرق بين المضاعفات الجانبية المتوقعة بنسبة معينة لأي عملية، وبين الأخطاء الطبية الحقيقية الناتجة عن إهمال، وسنرى خطورة معاقبة الأطباء في حالة المضاعفات الجانبية، وما تؤدي إليه في حالة التعامل مع الحالات المعقدة ذات المخاطر العالية أو إجراء عمليات لها. كما نتناول حقوق وواجبات المريض في التعامل مع أي إجراء طبي وحقه في معرفة الخطأ الطبي.

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493