فلنهاجر.. قبل أن نُستبدل

عندما يهل علينا عام هجري جديد، نستقبله كما في كل عام. لكننا لا نكاد نستقبل الشيء الكثير من حِكم وعِبَر ابتداءِ تاريخ الإسلام بيوم هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بأيام الإسلام العظيمة الأخرى، مثل يوم نزول الوحي، أو فتح مكة، أو غيرها من الأيام التي تستحق أن يبدأ تاريخ الإسلام وبداية كل عام بها… فلماذا يبدأ عامنا بيوم الهجرة؟

 

إن اختيار هذا اليوم ليكون يوم ابتداء عام كل مسلم على وجه الأرض، لهو أمر يحتاج إلى وقفة متأملة ومتعمقة، ولنبدأ في مقالنا هذا بأحد هذه الدروس المستقاة من الهجرة، ألا وهو تأصيل مبدأ الأخذ بالأسباب، وجعله من أسمى صور العبادة. فها هو رسول الله الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة بمعجزة ربانية، ينتظر الإذن بالهجرة من مكة إلى المدينة. وتشاء الحكمة الإلهية ألا ينتقل إلا بعالم الأخذ بالأسباب المادية، وجعلها أسمى صور العبادة لله سبحانه، وتتجلى لنا في التحضير والتنفيذ لهذه الهجرة عبقرية التخطيط البشري والتنظيم والأخذ بالأسباب على أكمل وجوهها من قِبل آخر الرسل على وجه هذه الأرض.

 

وهل يخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه الموت؟ أو هل سَيخذُلُ الله نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم في الحماية؟

 

إن تحدى رسول الله قريشا بأسرها أن يقتلوه ويوقفوه عن الهجرة إن استطاعوا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في تحديّه لقريش عند هجرته، إنما هي دروس الهجرة لا بد أن يلقنها لنا ويعلمنا إياها فعلا وعملا وواقعا وتاريخا، معلم الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأسوق لكم هنا بعض أمثلة تأصيل أحد دروس الهجرة، وهي الأخذ بالأسباب:

1- التكتم على موعد الهجرة، فلم يعرفه أحد حتى صاحبه أبو بكر الصديق من منطلق تطبيق “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.

2- مبيت سيدنا على بن أبي طالب في فراش رسول الله عليه وسلم، وفي هذا كمال إتقان الخطة والأخذ بالأسباب، واجتهاد من نبينا صلى الله عليه وسلم، فالأمر الرباني هو ألا يبيت صلى الله عليه وسلم في فراشه، ولكن جبريل لم يأمره أن يطلب من أحد أن يبيت في فراشه، وفي هذا درس إعمال العقل البشري والتخطيط، فكانت كلماته لعلي رضي الله عنه “نم على فراشي وتسبح ببردتي فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم”.

3- خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة في ساعة القيلولة، وهي أشد ساعات النهار حرارة من الصيف، وأهل مكة في خيامهم وبيوتهم.

4- توجهه صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور جنوب مكة، وهو ليس في طريق المدينة، وإقامته فيه 3 أيام.

5- استعماله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بكر، عينا له بمكة ليأتيه بالأخبار.

6- حتى الطعام والشراب خطط لهما صلوات الله وسلامه عليه؛ ليعلمنا كيف نطبق المفهوم الصحيح لمعنى التوكل في قوله: “اعقلها وتوكل”، ووكّل هذه المهمة الشاقة والهامة والخطيرة إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق، وبهذا يؤصل لنا الرسول الكريم دور المرأة الفعّال، ومشاركتها الرجل في الحياة والكفاح والنضال، من خلال أهم رحلة قام بها بشر على وجه الأرض، وأسماء حامل في شهورها الأخيرة، وبذلك تستطيع أن تخبئ الطعام والشراب ولا ينتبه لها أهل مكة وهي تحمله لأبيها ولرسول الله صلى الله علي وسلم، وفي ذلك قمة التخطيط للمهمة، والاختيار الصحيح، والثقة بها رضي الله عنها وأرضاها.

7- طلبه صلى الله عليه وسلم من عامر بن فهيرة، مولاه الذي يرعى غنمه، أن يخفي الأثر من خلفهم لتعجز قريش عن تتبع أثرهم.

8- وها هو سيدنا أبو بكر يمشي وراء الرسول بمسافة؛ ليحمي ظهره، وإذا لقيه الرجل يسأله وهو يشير إلى رسول الله أمامه من هذا الذي بين يديك؟ فيجيب أبو بكر: هذا الرجل يهديني الطريق.. فلا يكشف عن هوية رسول الله، فتؤذيه قريش ولا يكذب في مقولته.

 

وتشاء الحكمة الإلهية حتى يكتمل هذا الدرس الإنساني العظيم، أنه بالرغم من تمام وكمال خطة الرسول الكريم، والأخذ بالأسباب المتاحة لديه على أكمل وجهها، إلا أن الأسباب المادية لم تكن كافية، ووصلت قريش إلى الغار، وهنا يتجسد قمة كمال التطبيق لمفهوم التوكل بعد الأخذ بالأسباب، في قوله صلى الله عليه وسلم كلاما صار قرآنا: “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم”.

 

وكان ذلك بعد أن رأى الله من رسوله وصاحبه ما أحب من الأخذ بالأسباب كاملة؛ عبادة له سبحانه وتعالى، ومن التطبيق الكامل الصحيح لمفهوم التوكل. ويحمي الله نبيه ودعوته لتكون هذه الهجرة، ولتكون بداية تاريخ أمة الإسلام التي كتب الله لها أن تحمل آخر الرسالات السماوية إلى قيام الساعة.

 

أين نحن كأفراد ومجتمعات وكأمة من دروس الهجرة؟ وهل يذكرنا كل عام هجري جديد بتلك المعاناة والمشقة، التي وضع الله سبحانه فيها أحب عباده وأجرى عليه سنته فقط ليعلمنا تلك الدروس؟

 

فللهجرة أشكال مختلفة وصور متعددة، فقد تكون هجرة وجدان أو مشاعر أو أفعال أو أجسام أو كلها مجتمعة.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما حرم الله”.

هل نجدد النية في مطلع كل عام هجري للهجرة إلى الله بجعلها الغاية والمقصد في النية والقول والعمل، كما قال رسول الله: “إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”..

 

إن أمة قدوتها وأستاذها آخر الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتُذَكَّر في مطلع كل عام جديد لها بهجرة رسولها وبالدروس التي خطها لها في حياته كفاحا ونضالا ومعاناة ومشقة، ثم تنسى أو تفرطّ أو تتخاذل، لهي على خطر عظيم. ومن لا يهاجر إلى الله يهجره الله، ومن يتول يستبدله الله بغيره. قال تعالى: “وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”. وكتاب الله مليء بتاريخ من سبق، ومن لا يقرأ التاريخ ولا يعي دروسه، يأبى التاريخ إلا أن يلقنه أقسى دروسه.. والتاريخ يعيد نفسه.. وسنن الله لا تتبدل ولا تتغير.. و”لن تجد لسنة الله تبديلا”.. “ولن تجد لسنة الله تحويلا”..

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493