“فلا تظالموا”

تحدثنا في المقال السابق عن الظلم وأنواعه، وعن كونه سبباً في كل فساد في الأرض، فإذا اختل ميزان الإصلاح بالفساد الذي يجلبه الظلم، اختل نظام الحياة كلها على الأرض، ويبدأ الاختلال ببنية الإنسان وكيانه جسداً وعقلاً وروحاً، وعرفنا كيف يصبح الإنسان ظالماً رغم أنه ولد على فطرة العدل المغروسة فيه .. إنه في كل مرة تسكت فيها عن ظلم، يعاد تشكيل دماغك وتفقد القدرة على رؤية مواطن الظلم حتى تنتكس الفطرة ولا يرى الإنسان الظلم ظلماً، وعندها يصبح أشبه بالشيطان منه للإنسان، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.


يؤكد العلماء والباحثون الدارسون لقضية الظلم والشعور به، أنه مدمر للإنسان وصحته الجسدية والعقلية والروحية، فهو يؤدي إلى تفاقم الإعاقات والإحساس بالآلام المزمنة والاكتئاب والغضب والأفكار المدمرة وكل الأمراض المرافقة للتوتر على أجهزة الجسم المختلفة.
ومن أنواع الظلم التي تفتك بالمجتمعات وتفسد كل شيء فيها الظلم الاجتماعي والاقتصادي، والذي يبدأ ببنية اجتماعية وتركيبة مؤصلة على التعصب الجنسي أو العرقي وعنصرية مؤسساتية وطبقية اجتماعية، مما يؤدي إلى اختلال التوازن المالي والسلطوي وانعدام القدرة على التأثير الفعال في المجتمع وفي صنع القرار، مع ما يتبع ذلك من ظلم في توزيع الموارد والثروات.
ومن صور الظلم الاقتصادي في المجتمعات تفشي الربا والاحتكار وغلاء الأسعار وتسلط المال والجاه وضياع حقوق الفقراء والمساكين وأكل أموال الناس بالباطل، فينتشر الفقر والخوف على تأمين حاجيات الحياة، ويصاب الإنسان بالهم والغم والكرب والقلق والتوتر، وهكذا يصنع الإنسان المظلوم المقهور المهدور المريض نفسياً والمهيأ للفساد، وبهذا تتغير سلوكيات المجتمع شيئاً فشيئاً كرد فعل على آليات الظلم، فتنتشر السرقة والاختلاس وقبول الرشوة والخيانة والواسطة والتطفيف والخداع، وكذلك الفاحشة والبطالة والفساد الأخلاقي والاجتماعي، مما يفاقم من الظلم ويؤصله حتى يصبح طريقة حياة.


إن معظم الثورات في التاريخ الإنساني ما كانت إلا من أجل رفع الظلم والمطالبة بلقمة عيش وإعادة لكرامة الإنسان، حيث لا يجتمع ظلم واستقرار في أي مجتمع من المجتمعات، وتتجاوب بعض الحكومات الظالمة بالقمع والاعتقالات وإعلان حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية، ولا تدرك أن العنف يولد عنفاً وأن القمع يولد انتفاضاً، والحل هو ما أمر به فاطر الأرض والسماوات بإرساء العدل بين المخلوقات.


إن الظلم وتبعاته من خوف وفقر وفساد هو أخطر سلاح دمار شامل للمجتمعات بل وللعالم بأسره، ولهذا حرمه الخالق على نفسه تغليظاً لحرمته بين عباده لعلمه سبحانه أن فيه دماراً للإنسانية ونهاية للإنسان. فقوم شعيب طففوا المكيال والميزان، فوصفهم الله بالمفسدين في القرآن، وأبادهم ودمرهم، ولم يبق منهم إنسان.


بل وصف الله المكذبين بالدين في القرآن بالذين يدُعُّون اليتيم، وفي هذا رمزية لتهميش دور الضعفاء، “وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِوالحض أعلى من الحث، هؤلاء الذين يُصلون ولا يعنيهم المساكين والفقراء ولا يُفعلون دور الصلاة في الحياة .. الذين يراؤون أنفسهم ثم يمنعون الماعون، والماعون رمز لكل أدوات الإنتاج في المجتمع. إنهم هؤلاء الذين يؤدون الشعائر ولكنهم عطلوا أدوات الإنتاج في مجتمعاتهم باحتكارهم وجشعهم وفسادهم.


إن العدل في القرآن محور كل شيء، وعليه ترتكز فلسفة التشريع وبناء المجتمع وحفظ وصيانة الحقوق وتعميق وتأصيل مبادئ الأخلاق في جميع مجالات الحياة، وبدونه لا سعادة ولا استقرار.
ولذلك فإن العدل مقصد رئيسي وأصل أصيل في الشريعة. يقول ابن القيم عن الشريعة “هي عدل كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل”، ثم يقول “حيثما كان العدل فثمَّ شرع الله“.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى في رسالته في الحسبة ما نصه “فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة“.


وإثم الظلم يقع على كل من أسهم في الجور والظلم.. عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الآيَةَ: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ”، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ“.


وقال تعالى “وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ“.
يروى عن الإمام أحمد بن حنبل، حينما كان مسجوناً أن السجان سأله عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة، فقال له: الأحاديث صحيحة، فقال له السجان: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيطون لك ثوبك، من يطهون لك طعامك، من يساعدك في كذا وفي كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لا يُغْفَرُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَمَّا الَّذِي لا يُتْرَكُ فظلمُ العبادِ يقَتصُّ اللَّهِ لبعْضهمْ مِنْ بَعْضٍ. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه “العدل جنة المظلوم وجحيم الظالم”، ويقول “اللهمَّ إنِّي أشكُو إليك جَلَدَ الفاجرِ وعجزَ الثقةِ”. ويقول مارتن لوثر كينج المصيبة ليست في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار“.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، ويقول “اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ“.


سأل ابن يحيى البرمكي أباه وهما في السجن: يا أبت أبعد المال والجاه والسلطان، صرنا إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ ماذا حدث لنا” فقال له أبوه يحيى: يا بني لعلها دعوة مظلوم سرت بليل ونحن نيام غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها. حقاً..


أَتَهْزَأُ بالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ
وَمَا تَدْرِي بِمَا صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيْلِ لَا تُخْطِي وَلَكِن
لَهَا أمَدٌ وَلِلَأمَدِ انْقِضَاءُ
فَيُمْسِكُهَا إِذَا مَا شَاء رَبِّي
وَيرْسِلُهُا إِذَا نَفَذَ اْلقَضَاءُ

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493