كاسر القلوب ومنير الدروب

“إنه ليس عظماً.. فعجباً كيف يكسر القلوبَ؟ وليس مصباحاً.. فعجباً كيف يُنيرُ اللهُ به الدروبَ؟ إنه نعمة من نعم الله العظيمة.. صغيرٌ حجمه، عظيمٌ قدرُ طاعتِه أو جُرمِه، به يُستبان الكفر والإيمان، فهو ترجمان القلوب والأذهان وأداة الخطاب والبيان، وبه يرتقي الإنسان ويُزف لأعالي الجنان، أو يهوي بكلمة منه سبعين خريفا في قاع جهنم ويكُبُ على وجهه في النيران”.

هذا ما قالوه عن اللسان..

 

واللسان عضو عضلي داخل الفم يرتبط بالفك عبر سبع عشرة عضلة تُؤمن له حركته وعمله، وهو من أقوى عضلات جسم الإنسان، وأسرع أعضاء جسم الإنسان التئاماً، ويتمتع اللسان ببصمة خاصة مثل بصمة الأصابع، فلسان كل إنسان له طبيعة فريدة وشكل هندسي مميز جداً، وقد نسمع في المستقبل القريب عن تحقيق الهوية عن طريق بصمة اللسان. ويوجد في الغشاء المخاطي للسان نتوءات تعرف بالحليمات أو براعم التذوق.

 

ويحتوي اللسان على عشرة آلاف برعم تذوق، وبرعم التذوق الواحد يحتوي على 50-100 خلية تذوق، ويمتص اللسان 25 ألف جزيئية من المادة المراد التعرف عليها ليتوصل إلى مذاقها، ويتذوق اللسان مذاقات مختلفة، مثل المذاق المر والمذاق الحمضي والمذاق الحلو والمذاق المالح، ولكل منها جزء مخصص في اللسان.

ويسكن فم الإنسان من 600-700 نوع من البكتيريا، ويمكن انتقال بعض هذه البكتيريا إلى الدم، خاصة مع وجود التهابات الفم واللثة، لذلك فإن نظافة الفم لا تساعد فقط على سلامة وصحة وطهارة ونقاء رائحة الفم، وإنما تقي من انتقال بعض أنواع هذه البكتيريا إلى الدم ومنها إلى أعضاء الجسم المختلفة، حيث تشير كثير من الدراسات الإكلينيكية إلى أن أمراض والتهابات الفم قد تؤدي إلى أمراض مختلفة، مثل أمراض القلب والذبحات الصدرية والقلبية والجلطات والالتهابات الرئوية، بل وهشاشة العظام والعقم ومضاعفات السكري وغيرها كثير.

 

وتعيش 50% من البكتيريا في الفم على اللسان، وهناك نتوءات تغطي سطح اللسان وبذلك تهيئ للبكتيريا مرتعاً مناسباً للاستقرار والنمو، وهذا ما يؤدي إلى انبعاث رائحة كريهة في الفم والنَفَس، لذلك فإن نظافة الفم تبدأ بنظافة اللسان لإزالة الطبقة البيضاء أو الصفراء التي هي نتاج تراكم البكتيريا والمواد السامة، وهي أحد الأسباب الرئيسية للرائحة الكريهة، خاصة في الجزء الخلفي من الحلق، وأفضل طريقة للتخلص منها تكون باستعمال كاشطة اللسان.

 

وقد أكدت الدراسات ومنها دراسة عام 2004م أن فعالية كاشطة اللسان في تنظيف اللسان وصلت إلى 75% مقارنة بـ45% فقط باستعمال الفرشاة لكشط اللسان. ليس هذا فحسب، بل نظافة اللسان تجعله أكثر فعالية في تذوق الطعام، ولا يعتبر اللسان نظيفاً وخالياً من البكتيريا إلا إذا عاد لونه للون الأحمر الفاتح الطبيعي.

 

وبراعم التذوق هي من نعم الله على الإنسان، ومن أهم وظائفها حماية حياة الإنسان، فيولد الطفل وفيه غريزة الحب والإقبال على المذاق الحلو، لأنه غني بالسعرات الحرارية اللازمة لنمو الدماغ، وكره ورفض المذاق الحامض حماية له من أن يكون الأكل مسمماً أو تالفاً.

 

وكما أن من خصائص اللسان الحسية الفيزيولوجية التبلد الذي يُفقد اللسان قدرته على التذوق نتيجة الغلو والإكثار فيحتاج إلى المزيد والمزيد لتذوق الطعام، وتصبح هذه طبيعة الإنسان، فإن الله بحكمته جعل للسان كذلك خاصية التبلد المعنوي نتيجة الغلو والإكثار من الذنوب والخطايا ومعاصي اللسان، حتى تصبح كبائر الذنوب كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور صغائر في نظر ذلك الإنسان. نعم كبائر الذنوب.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر.. ألا أنبئكم بأكبر الكبائر.. ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، إشفاقا عليه صلى الله عليه وسلم”، بل وقرن الله سبحانه قول الزور بالرجس فقال “فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور”، وقرن الرسول الكذب بالفجور، فقال “إيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ”، وقال صلى الله عليه وسلم “لا يدخل الجنة نمام”.

 

ومن صور تبلد اللسان ما شاء الله أن يظهره لنا في حادثة الإفك واتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كذبا وبهتانا، يقول الله تعالى “إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ”، و”تَلَقَّوْنَهُ بألسنتكم” أي تتناقلونه عبر اللسان من لسان لآخر تبلداً دون أن يمر على عقولكم وقلوبكم. وذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن في قراءة أخرى “تلْقُونه” من الولق وهو الكذب.

 

وكما أن تذوق اللسان للطعام يمكن أن يُدرب أو يُعلم حتى يستسيغ الإنسان الطعام ويحبه، وأنجع الطرق لتحقيق ذلك هو ارتباط الأمر بمناسبات مبهجة جميلة في الذاكرة والتكرار، فإن تذوق اللسان لكل ما فيه طهر معنوي كذلك يُعلم ويُمرن بالتكرار وبالصحبة الصالحة الخيرة المحببة للنفس ليصبح طبعا متأصلا يهدي للبر وإلى الجنة.. يقول الرسول الكريم “عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا”.

 

 

لقد بين الإسلام عِظم شأن اللسان، ففي الحديث الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه، ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ ما يدخله الجنة ويباعده عن النار، فذكر الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والجهاد في سبيل الله ثم قال لمعاذ: “ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى فأخذ بلساني فقال تكف عليك هذا. قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم”.

 

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً”. كيف لا وقد أكد الرسول على خطورة اللسان بقوله “أكثر خطايا ابن آدم في لسانه”، وقال “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.

 

بل وجعل من مدى طهر اللسان وعفته معياراً لحبه والقرب منه يوم القيامة فقال “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا… وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون”. وقال “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه”.

 

إنك بنظافة لسانك المادية الحسية تقي نفسك الأمراض الجسدية وبنظافته وطهارته المعنوية يستقيم قلبك وإيمانك وتُهدى إلى البر وترتقي للمراتب العلية بمحبة الله وعباده ورسول الإنسانية، فاجعل من لسانك بلسما يشفي العليل ويجبر الكسير فيصلح الله لك عملك ويغفر لك ذنبك.. قال تعالى “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم”.

 

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493