متلازمة الدين والحياة

سؤال ظل يطرح نفسه عليّ في سنوات الطفولة حين تتراءى لي صورة المصلين داخل المسجد، وهي لا تتوافق مع صورتهم خارج المسجد، سواء كان ذلك في التعامل أو في الأخلاق أو في الممارسات. كنت كطفل أسأل نفسي: كيف يكون ذلك؟ ولماذا هذا التناقض؟ لماذا لا تعمل الصلاة عملها في تهذيب الأخلاق عند هؤلاء؟ لماذا يكون التعامل بعيداً كل البعد عن روح الدين؟


تمر الأيام والسنون ويكبر الطفل ويدرك أن الذي كان يتساءل آنذاك، فطرته التي كانت فيه، والتي لم تنتكس بعد. ويصبح الطفل فتىً ثم رجلاً وتتسع مداركه وقراءاته للتاريخ.. يقرأ صوراً مشرفة ونماذج لشخصيات تاريخية بل ومعاصرة لأناسٍ يمكن أن نشبههم بأنهم قرآنٌ يدب على الأرض.. الدين عندهم هو الحياة والحياة عندهم هي الدين لا فصل بينهما.
وأصبح التحدي الكبير هو كيف نحيا هذا النموذج الذي عاشه ومارسه الأولون. فالعلم عند هؤلاء عبادة.. كما أن التعليم عبادة.. بل هو صورة من صور الجهاد في سبيل الله.. كيف لا.. وأول الوحي كلمة (اقرأ)؟


والعمل عند هؤلاء عبادة.. كيف لا؟ والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
والمشي في حاجة غيرهم عندهم عبادة.. “ولأن تمشي في حاجة أخيك خير لك من أن تعتكف في مسجدي هذا كما”، علمنا معلم الإنسانية.


والتطبيب عندهم عبادة.. وترويحك عن أخيك المسلم عبادة.. وإدخال البهجة والسرور على غيرك عبادة.. وتبسمك في وجه أخيك صدقة.. والكلمة الطيبة صدقة.. وكل معروف صدقة.
بل كل صور المعاش عندهم عبادة، فالأكل عبادة، ورعاية الأبناء عبادة، والرياضة كذلك يمكن أن تتحول بالنية لتصبح صورة من صور العبادة، وكذلك التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض والتفكر في آيات الله عبادة، وما اقتصر سجودي في صلاتي فقلبي ساجد طوال الحياة.


كما أن قراءة القرآن وإقامة الصلاة عبادة بتنزيل القيم المجردة إلى أرض الواقع لكي نتغير بها ونغير بها العالم من حولنا إلى عالم أفضل، وهذا ما يطلبه منا الإسلام.. إنه سجود القلب والجوارح في محراب الحياة.


نعم هذا ما يطلبه منا الإسلام.. بل هذا هو الإسلام، فوالله ما هزمنا إلا عندما حبسنا الإسلام في المسجد وأغلقنا عليه الأبواب. أُسألُ كثيراً: كيف تخطب الجمعة وأنت طبيب؟ أليس مكانك هو المستشفى؟ فأجيب: وما الحكمة من وجود المنبر في الإسلام إلا أن يكون مصدراً للتعليم والتثقيف وإرشاد الناس وتوعيتهم وتوجيههم للخير. فالطبيب يعالج كل ما يؤثر سلباً على الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً، وكل متخصص يفعّل دور المنبر في تخصصه ومجاله فنثري المساجد ونجعلها جزءاً من الحياة، وبذلك نعيد الحياة للمسجد كما نعيد المسجد للحياة.
لم تفقد أمتنا عزتها ومكانتها بين الأمم إلا عندما جعلت الإسلام قاصراً على المسجد. وتم بذلك الفصل بين الدين والحياة. نعم.. كانت هذه هي الإجابة.


إن المرض العضال الذي أصاب هذه الأمة هو الخلل في الفهم الصحيح لمبدأ الشمولية في الإسلام، فرأوه عائقاً لتقدمهم وحملوه تبعة تخلفهم، وقصة العميان مع الفيل تجسد لنا ورطة الفهم الخاطئ تلك التي وقع فيها المسلمون مع شمولية دينهم، فمنهم من أمسك أذن الفيل، ومنهم من أمسك جسمه أو رجله أو خرطومه أو ذيله، ولك أن تتخيل بم يصف كل كفيف منهم فيله.


إن أهم وأخطر مفهوم جاء به آخر رسل السماء، هو مفهوم الشمولية في الإسلام.. شمولية الإسلام في تنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة.. طريقة حياة لا فصل فيها بين الدين والحياة. إنها الربط بين التكاليف الشعائرية من صلاة وصيام وقيام والتكاليف الاجتماعية التي تظهر آثارها في حياة الناس اليومية.. إنها شمولية الإسلام التي جعلت الرعيل الأول يوصفون بأنهم (رهبان بالليل فرسان بالنهار).


ليتنا نعي ونفهم ونمارس ونطبق معنى الشمولية في الإسلام “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”، ألا يكون هناك إلهٌ إلا الله، لا إله الهوى.. ولا إله المال.. ولا إله الجاه والسلطان. كل الحياة لله، وكل ما فيها من قول أو عمل هي صورة من صور العبادة لله الواحد الأحد، وهذا تحقيق معنى “لا إله إلا الله“.


إن الإسلام دين أودعه الله كل الأصول اللازمة لتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، يقول تعالى في محكم كتابه «ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء» ويقول الرسول الكريم «والله ما تركت من خير إلا وأمرتكم به وما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه».
إن كتاب الله مملوء بالآيات، وكذلك أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما لا يفصل بين العقائد والعبادات والأخلاق وبين سائر مناحي الحياة من أمور الحكم والسياسة والقضاء والإدارة والمعاملات، أو أمور العلاقات الشخصية من خطبة وزواج وطلاق ورضاع، أو أمور المال والاقتصاد من زكاة وبيع وشراء ودين ووصية.. وغيرها، ومن أراد الاطمئنان لما أقول فليقرأ النصف الثاني من سورة البقرة فسيجد هذا التزاوج البديع وهذا التلاحم المقصود بين هذه الدوائر تأكيداً لهذا المفهوم الشامل للدين.


وما أظن صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصفوا بأنهم رهبان بالليل وفرسان بالنهار إلا لنجاحهم في تحقيق ذلك الربط بين تكاليف الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وغيرها وبين التكاليف الاجتماعية التي تظهر آثارها في واقع الناس، يقضون ليلهم ساجدين عبادة لله في صلاتهم وقيامهم، ثم لا تزال قلوبهم وجوارحهم ساجدة في محراب الحياة في نهارهم عملاً نافعاً يخدم كل من حولهم، وفي هذا يكمن التناسق البديع والتزاوج المكمل بين أعمال الدنيا وشؤونها وبين أشواق الآخرة وروحانياتها.


إلهي علمني كيف أعبدك بكلية.. علمني كيف لا أفصل بين أي من أعمال الدنيا والشعائر التعبدية.. علمني كيف يسجد القلب وتسجد الجوارح في محراب الحياة اليومية.. علمني كيف أجعل كل أعمالي عبادة بتصحيح النية واتباع التعاليم السماوية.. إلهي علمني كيف أكرس حياتي تجسيداً لمفهوم ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
إن توضيح مفهوم الشمولية في الإسلام، بما وضع الله العليم الخبير في هذا الشرع العظيم الذي لم يفرط فيه للناس من شيء كما أخبر، وتعميق هذا الفهم في عقول وأفئدة أبناء هذه الأمة، والإيمان به أنه الهدى والطريق القويم وأنه الرحمة المهداة للعالمين، كفيل إن شاء الله بأن يعيد لهذه الأمة دورها الريادي والقيادي بين الأمم، وفي هذا بشرى لعباده المؤمنين «ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين».

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493