“والنوم سباتا”

جعل الله فيه وبه السكن.. ليسكن الجسد من لأواء التعب والجهد والنصب، وليسكن الدماغ ويستعيد حيويته، وليسكن القلب، فلا ضجر ولا هم ولا غم ولا قلق، وبالرغم من أن الإنسان يقضي أكثر من ثلث حياته فيه، إلا أن معظم الناس لا يعرفون عن هذه النعمة العظيمة الجليلة إلا القليل.

 

هناك اعتقاد سائد خاطئ بأن النوم خمول في وظائف الجسم الجسدية والعقلية، يحتاجه الإنسان لتجديد نشاطه، ولكن الواقع المثبت علمياً خلاف ذلك تماماً، حيث يحدث خلال النوم العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم، بل إن بعض الوظائف تكون أنشط خلال النوم، وتحدث العديد من التغيرات في الوظائف العضوية الهامة للجسم لإعادة بناء الأنسجة.

 

وقد تواترت البحوث العلمية المختلفة لتؤكد مدى أهمية طبيعة ونوعية النوم المستوفي لمعايير صحة الإنسان، والكفيل بالوقاية من العديد من الأمراض. حيث أكدت دراسات عديدة حول العالم أن نقص النوم يؤدي إلى إحداث خلل في وظائف أعضاء الجسم وينتج عنه العديد من الأمراض، فقد أثبت معهد Max Blank بألمانيا أن نقص النوم يضعف الذاكرة والقدرة على التعلم، فالمعلومات تخزن في منطقة عميقة في الدماغ تسمى “Hippocampus” لفترة قصيرة، ثم تتحرك خلال عدة أيام خلال النوم العميق إلى قشرة الدماغ التي تنشط أثناء النوم لتصبح المعلومة في مجال الذاكرة طويلة الأمد.

 

وفي تقرير نشر في أشهر مجلة طبية عالمية “New England Journal of Medicine” عام 2005، وجد أن أطباء الامتياز الذين امتدت فترة مناوبتهم لأكثر من 24 ساعة متواصلة ازدادت احتمالية تعرضهم لحادث سيارة إلى الضعف، وفي دراسة أخرى عام 2008 بالمجلة الأميركية للجراحة وُجد أن الجراحين الذين يأخذون قسطاً من الراحة كانوا أكثر سلاسة وسرعة في إجراء عملياتهم وبأخطاء جراحية أقل.

 

وفي دراسة نشرت في عدد 4 سبتمبر عام 2013، أكد الباحثون في الولايات المتحدة الأميركية أن النوم يزيد من إنتاج مادة تسمى “Mylen” وهي الغطاء الخارجي الذي يحيط بالأعصاب تماماً كالمادة العازلة الواقية التي تحيط بالأسلاك الكهربائية، فتقوم بحماية الأعصاب وضمان سلامتها وتزيد من سرعتها وقدرتها على التوصيل.

 

وكل هذا لأننا عندما ننام فإن هناك “جيناً” وراثياً يُفعّل، وهو مسؤول عن إصلاح ونمو الخلايا في الدماغ، وبالتالي فإن قلة النوم تؤدي على المدى البعيد إلى أضرار بالدماغ وفقدان جزء من الذاكرة. ولذلك فإن النوم القليل والسهر قبل الاختبارات بغرض الدراسة له أضرار أكبر من فوائده، حيث إنه يقلل القدرة على التركيز واسترجاع المعلومات ويوهن الذاكرة.

 

وفي مراجعة لـ696 دراسة حول العالم، وجد الباحثون زيادة احتمالية الإصابة بالسمنة للأشخاص قليلي النوم، سواء كانوا أطفالاً أو كباراً.

 

وفي دراسة حديثة نشرت في مجلة “Nature Communication” في فبراير2013 للباحث ماثيو ووكر، تبين أن نفس الشخص عندما ينام 8 ساعات فإنه في الصباح يميل إلى اختيار أطعمة صحية، أما في حالة عدم النوم فإنه يميل إلى الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية.

 

وقد نشرت مجلة النوم في عددها الصادر في شهر أكتوبر عام 2012 دراسة أجريت على 245 من طلاب الثانوية، وضح الباحث الرئيسي فيها الدكتور كارين ماثيوز من جامعة بتسبرج أن زيادة ساعة واحدة في اليوم للطلبة الذين ينامون 6 ساعات أدت إلى تحسن استجابة الجسم للإنسولين بحوالى 9%، وهذا بالطبع يؤدي إلى حمايتهم من الإصابة بالسمنة والسكر ومضاعفات في المستقبل.

بل إن الأشخاص الذين ينامون أقل من 5 ساعات في اليوم تزيد فيهم احتمالية الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وهذا ما أكدته الدراسة التي نشرت في مجلة الضغط العالمية في عددها الصادر في سبتمبر 2007.

 

وبشكل عام، فإن كل الدراسات تؤكد أن الجسم عندما لا يحصل على كفايته من النوم ولو لأيام معدودات، فإنه يصبح أشبه بالمصاب بمرض السكري لعدم فعالية هرمون الأنسولين المسؤول عن إدخال السكر إلى الأنسجة والأعضاء، فيبقى السكر في الدم ولا يصل إلى الأعضاء فترسل للدماغ إشارة الجوع فيقبل الإنسان على الطعام. وبذلك فإن الدماغ يقرأ نقص النوم على أنه نقص في الأكل والجوع، وهذا يفسر الشره الشديد للحلويات للذين يسهرون ليلاً ولا يأخذون كفايتهم من النوم. وكذلك يفسر الزيادة بمعدل 1 كجم على مدى أسبوعين فقط لمتطوعين منعوا أنفسهم من النوم في الدراسة التي أجريت في جامعة كولورادو. فكيف يكون الحال لمن يعاني من نقص النوم بصورة مزمنة؟

كثيراً ما نسمع من يقول لنا لو لم تنم تمرض أو نم عندما تكون مريضاً، فما علاقة النوم بالمرض؟ يؤكد الدكتور ديواكر بالاشندران، رئيس مركز النوم بجامعة تكساس ومركز السرطان العالمي المشهور في هيوستن “MD Anderson” أن دراسات عديدة بينت أن الخلايا المناعية في الجسم مثل “T Cells” تنخفض عندما لا نأخذ كفايتنا من النوم وتزداد الخلايا الالتهابية، وعلى قدر نقص النوم على قدر زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض والبرد والفيروسات.

بل وفي دراسة حديثة نشرت في مجلة “Plosone” في أكتوبر 2013، اكتشف الباحثون في جامعة هلسينكي، الجين المتأثر بقلة النوم والمسؤول عن إضعاف الجهاز المناعي.

 

مئات الدراسات حول العالم تؤكد أن عدم أخذ الإنسان لكفايته من النوم يستقبل من الجسم كصورة من صور التوتر العام، ويؤدي إلى زيادة هرمونات التوتر والتي منها الكورتيزول والأدرينالين ونقص هرمون النمو، وأن التأثير ليس فقط على القدرة على التركيز والتفكير والذاكرة وإنما على زيادة نسبة الإصابة بالأمراض كالسمنة والسكر والكوليسترول والضغط والذبحات الصدرية والدماغية والضعف في الجهاز المناعي والاكتئاب والتوتر وضعف العظام، بل وقصر العمر والموت المبكر.

 

إن المجتمعات العربية، للأسف الشديد، تحب السهر وتنام أقل بكثير من المجتمعات الأخرى. وفي بحث نشر في المجلة السنغافورية للطب على عينة من طلاب المدارس الابتدائية من مدينة الرياض، وجد أنهم ينامون أقل من أقرانهم من طلاب المدارس في جميع دول العالم، وذلك نتيجة السهر المبالغ فيه، وهذه النتائج مشابهة للطلاب الجامعيين وحتى متوسطي العمر، ففي بحث تم تقديمه في المؤتمر السنوي لجمعية الصدر السعودية عام 2008، وجد أن 54% من طلاب الجامعة ينامون أقل من 7 ساعات، مقارنة بـ21% من الفئة العمرية نفسها في الدول المتقدمة، وهذا بالطبع أدى إلى نتائج دراسة أخرى تمت على طلاب المدارس في الرياض بينت أن 13.5% من الأولاد و6.9% من البنات ينامون في الفصول، فلا غرابة أن يؤثر ذلك على التركيز والذاكرة والتحصيل الدراسي بشكل عام، بل ويسهم في ضعف المخرج الدراسي.

 

 

كل هذه الدراسات وغيرها مما لا يتسع المقام لاستعراضها هنا، تجيب عن العديد من الأسئلة المهمة المتعلقة بالنوم، وحيث إننا نقضي ثلث عمرنا في النوم، فسنحاول في مقال قادم إن شاء الله، أن نجيب عن سؤال: كيف نستطيع أن نحول النوم من عادة إلى عبادة؟

 

 

 

 لقراءة المقالة من صحيفة الوطن الرجاء الضغظ على الرابط أدناه :

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=17493